رائحة العطر الفواحة، ووميض بريق عيونه فضَّاحة، لمكنوناتِ قلبٍ عاشقٍ عذري، مُولع بالحبيبِ حد الثُّمالة، وإلحاح مهماز الاشتياق، بوخزاتٍ تمخرُ عُباب رُوحه في لحظةِ سعادةٍ أو ضيقٍ.. يبحثُ عندها عن شريكٍ يقاسمهُ تلك السَّعادة، أو يَستندُ عليهِ في لحظاتِ الضَّنكِ والتَّعبِ الَّتي تَخلقُ عندهُ شعورَ الأسىٰ؛ ليُخفِّفَ عنهُ ويَمسحُ دمعتَه.
المتتبع لديوان { مشانق العطر } يستطيع استنتاج أن العامل النَّفسيّ الحسيّ للأديبةِ إفتخار الدّويري تمحور حولَ ثلاثةِ عشاقٍ، تَستنجدُ بهم في الضِّيقِ والضَّنكِ وفي لحظاتِ حزنها، وتحاولُ أنْ تشاركهم سعادتها كل لحظةِ.
فمعشوقُ الشَّاعرة الأول الّذي عاشتْ في ظلِّهِ، وكنفهِ منذ طفولتِها هي الأمُّ الرّؤوم منبع الحنانِ، ورمز النَّقاء والعفّة، وهي حقيقة واقعة في حياتها رسمتْ هذه المعشوقة { الأم } كل ملامح حياةِ الشَّاعرة الْحِسِّيَةِ والنَّفسيَّة، والخُّلقيَّة، بريشةٍ غُمِسَتْ بدموعِ الصَّبر؛ لِتُثْبِتَ أركان القوّة والوقار والحكمة ، وبقيتْ معها حتّىٰ بعد فقدها { تغمّدها اللّٰهُ بواسعِ رحمتهِ } تستحضرُ رُوحها عندما تتخلص الشَّاعرة من لحظاتِ اللاوعي الّتي تلازمها في توهُّمِ وجود المعشوقِ الثَّاني؛ ألَّا وهو مولودها الَّذي كان يلازمها في كل مفاصل حياتها الزَّمانية والمكانيّة، وظهر هذا في { رمزيّة الطِّفل } وتكرار مفردة الطِّفل في معظم نصوصها، ورسائلها حتى أنَّهُ والأمّ { المعشوق الأول } يظهر جليًا في معظم النُّصوص إمّا بالتَّصريحِ أو التَّلميحِ.
أمَّا معشوق الشَّاعرة الثَّالث الّذي لا يفارقها هو قلمها الفوَّاح بعطر رُوحها يرسم إحسَاسَها الجيَّاش، ونبضات قلبها، ويوثِّق حالتها، ومشاعرها الحسِّيَة والنَّفسيَّة في لحظاتِ الوعي، واللاوعي، والحقيقة والخيال.
رغم هذا الحُبّ العذريّ الذي شكلّ حياتها، وفاح عطره لمولودٍ موهوم تخيَّلتهُ، وشاكسها، وعَنيتْ بهِ ووسمتْ كلّ بهيٍّ جميلٍ في مفاصلِ حياتها بِوَسمهِ ورَسمه وعشقها لوالدتها { رحمها اللّٰه تعالى } إلا أنَّنا ومنَ العتبةِ الأولى ( مشانق العطر ) لديوانها الأول وجدناها تُدافعُ عن عذريةِ حبها، وعشقها فكان خطُ الدِّفاع الأول بالنسبةِ لها ، إذ عندما فاحَ عطرُ هذا العشق جذبَ إليها العيونَ وتجهزَّ الظُّلم؛ ليقيمَ عليهِ حدَّ العيبِ والحرمةِ والظَّنِ السَّيء ونصبَ مشانقهُ؛ ليُّعلِّقَهُ منْ عُنقهِ بحبلِ الاشتياق، والحنين ويقذفُ حصنها النَّقيّ المنيع.
هذا، وبعد متابعتي لمدادِ يراعِ الشّاعرة عبرَ زمنِ كتابتها للرَّسائل منْ أولِ رسالة حتى الأخيرة { ما تم نشره وما لم ينشر بعد } ؛ لاحظتُ كما كل كتاباتها، وفي جميعِ أعمالها الأدبيَّة الّتي سبقتْ، إنها لا تتخلى عنِ ألأدبِ الصَّادق ، فهيَّ الأديب الّذي لا يكتب إلا مشاعرهُ وصدق عاطفته وهو أدبُ الوجدان.
فالأدب الوجداني هو الأدب الّذي لا يتحدّث فيه الشّاعر إلَّا عن نفسه ، ولا يتحدّث إلَّا بواقعه الخاص.
إفتخار الدّويري شاعرةٌ موغلةٌ في الذَّاتيِّة ، فنَصُّها ينبعثُ منَ القلبِ ليتوجَّه إلىٰ القلبِ ، ولا يكون الدّافع إليهِ شخصيّة افتخار ، وإنّما شعورٌ داخلِي، وحاجة نفسيّة إلىٰ التَّعبير عمّا يعتري نفسها منِ انفعالاتٍ، وتأثِرُاتٍ أمامَ أحداثِ الحياة تَكتُبهُ؛ ليكونَ مواساة لها، ويصدُرُ عفويّاً طبيعياً ، كما يفوحُ العطرُ منَ الزَّهرةِ ، وكما ينبعثُ النّور منَ الشَّمسِ ، وهو انتشارُ صدىٰ صوت شغاف قلبها.
فالشّعر الوجدانيّ قائمٌ في أصالةِ الشّاعر وطبيعتهِ لا يستطيع إلا أنْ يكتبهُ ولا يكتمهُ ، إنّما يحسُّ بجرحٍ و ضيقٍ إن لم نبح بهِ.
هل تستطيع الزهرة يومًا أنْ تكتم عنِ النَّاس عطرها ؟! ، وهل تستطيع الشّمسُ أنْ تحجب عنهم نورها؟!! ، وهل نستطيع كتم وكبت صوت الصَّدى ؟!! كذلك الشّاعر الوجداني لا يستطيع إلَّا أنْ يبوح بما يحتاج وجدانهُ وما يسلي بهِ نفسهُ، لهذا كله نبعتِ العاطفة صادقة سواء كانتْ حزينة ؛ كمرثيةٍ أو حاجةِ نفسٍ للتَّحرُّرِ أو غزلٍ عذريٍّ لطيفٍ أو مدحٍ يَسْرُدُ صفات الممدوح بصدقٍ ونقاءٍ، أو ما إلىٰ ذلكَ منَ الوجدانيَّاتِ.
هذا أنتِ، وهذه حقيقة نصوصك، ولا أبالغ إن قلت مجمل أعمالك الأدبيٍَة ونصوصكِ الشّعريَّة تتصفُ بهذهِ السِّمة.
ومنَ الملفتِ لِلْنظر أنَّ الأستاذة إفتخار طرَّزتْ عددًا من رسائلها في هذا الدِّيوان بتناصّاتٍ بديعةٍ؛ كأنّها لوحات فسيفساء غرستها في متن الرِّسالة من قصّة سيدنا يوسف { عليه السَّلام }؛ لتعمق الدّلالة وتوضِّح المقصود مِنْ الإيحاء؛ لتستفزَّ بهذا تخيُّل المتلقي بقميصِ يوسف والجُبِّ، كناية عن حجم القهر، والظُّلم الّذي عانتْ منهُ وعاشتْ معهُ وبهِ كلّ مفاصل حياتها منذ طفولتها.
مباركٌ لكِ أختنا الأديبة الأريبة الفاضلة، باكورة أعمالك الأدبيَّة، ومولودك الحقيقيّ الآن بين يديكِ، يرىٰ النُّور، وتَتَحسَّسِين معهُ وبه كلّ البهاءِ، والجمالِ، والفخر ، ونرىٰ فيه مرآة رُوحكِ النَّقيَّةِ البهيَّةِ، ونستمتع بتجربتكِ المُعتقة المُتأَنِّية، وإبداعك المتميز، وننتظر ديوانك القادم بفارغ الصَّبر، وَفَّقكِ اللّٰهُ وحماكِ وسَدَّدَ علىٰ طريقِ الخيرِ خطاكِ.
أبارك لك هذا النِّتاج الأدبيّ الصَّادق بصورهِ الجميلة الثَّرة .. بوركتِ أديبة أريبة شقَّت طريقها بعصاميَّة وفخر ... ويحقُّ لنا أن نفخر بك وبأدبك ونتاج فكرك.
يحيى غرايبة .... الأردن



