-->
recent

آخر الأخبار

recent
random
جاري التحميل ...
random

قصة قصيرة للكاتبة منيرة حرب

 


________كيف ماتت البركة؟_______ 

 انفضَّ الجميع من حوله. كان ما يزال ينتفض والرذاذ يبلِّل لحيته التي غطَّت معظم وجهه.. فلا ترى سوى عينين صغيرتين لامعتين، وخدَّين بارزين حمراوين كحبتَي مشمش، وعروق ناتئة في جبهته العريضة. أخذ نفسًا عميقًا وهو يتشبَّث بآخر مستمع إلى محاضرته في النفاق والكذب وغلاء الأسعار، إلَّا أنَّ "سعيدًا"كان هادئًا جدًّا ومنشغلاً بتناول حبتَين يتيمتين من الفستق الذي التهمه الحضور وهم يتقلَّبون في جلستهم حتى غلبهم الملل فانسحبوا الواحد تلو الآخر وهم يتأفأفون. نظر "أبو محمد" إلى "سعيد" وذقنه ترتجف غضبًا: -سأحلق لحيتي هذه وأنثرها في السوق إن فهموا ما قلته لهم. ولكنَّ "سعيدًا" كان ما يزال شاردًا يتلمَّظ بامتعاض حبة الفستق العفنة. ضرب "أبو محمد" كفًّا بكفٍّ فجفل "سعيد" وحدَّق ساهمًا في الرجل، وكأنَّه يراه للمرَّة الأولى.. ترى ما الرابط بين طعم العفونة ووالده الحاج عثمان الذي كان يمتلك محلًّا لبيع "البزورات"؟! كان الناس يقصدون دكانه من أقصى المدينة، وكانت مضرب المثل لجودة (بزوراتها) ومذاقها الفريد، يتباهى الناس وهم يقدِّمونها إلى ضيوفهم قائلين: -"تذوَّق.. إنَّها من عند الحاج عثمان". لم يمر وقت طويل حتى صدر قرار من البلدية بشقِّ طريق واسعة، تتسع للسيارات الفارهة التي غزت المدينة الصغيرة. سحقت الجرَّافة الدكاكين البسيطة التي امتلأت ببضائع تلبِّي كلَّ ما يحتاجه المرء من حصر وسجاد وكراسٍ مصنوعة من القش، وزيت الزيتون البلديِّ والصابون الذي تستقبلك رائحته من مدخل السوق فتفتح شهيَّتك للتسوُّق والأكل معًا، وخاصةً حين يبرزُ لك "أبو جاسم" اللحام مستعرضًا سكينه المشحوذة وهو يقول: "لحمة طرية أطيب من فستق "أبي عثمان""، فيتعالى الضحك والمزاح.. وأنت تنقِّل عينيك في تلك الوجوه الطيِّبة وفي صدرك فرح طفوليٌّ، تصطدم بالثياب المعلَّقة وهي تتدلَّى كعناقيد عنب من محل "فرج" للألبسة.. وغيره من المحال التي تعجُّ بالوافدين من القرى المجاورة. كان الباعة عند الظهيرة وحين تخفُّ الحركة يُشكِّلون حلقات: يلعبون النرد ويحتسون شايًا ثقيلًا ويضحكون ملء قلوبهم.. اليوم احتلَّت المحال الحديثة والبضائع المستوردة وكلُّ ما يخطر على البال مكان الحوانيت البسيطة التي مات معظم أصحابها وانزوى مَن تبقى منهم في بيوتهم غرباء عن هذا العالم الجديد. - ما قولك؟ حملق "أبو محمد" في عينيِّ "سعيد".. وحين لم يسمع جوابًا يشفي غليله صاح بصوت متهدِّج: -أغبياء..حمقى ..حيتان.. يأكل بعضكم بعضًا.. تكوَّر أبو محمد وقد تشنَّجت عضلات وجهه: -قمْ.. إلحق بهم.. لا خير يُرتجى منكم... ثم رفع يديه إلى السماء، فلمعت الخواتم المصطفَّة على أصابعه الضخمة التي تشبه سيجار "النَّمر ".. ما كان اسمه قبل أن يسافر ؟ تذكَّرتُ.. "طاهر" الذي عاد يحمل في حقيبته كلَّ ما يلزم ليقلب الناس على واقعهم.. اشترى وبدَّل.. وغيَّر الأنفس.. كم نمرًا عندنا الآن!؟ -اللهم إنِّي قد بلَّغت... نهض "أبو محمد" وهو يكزُّ على أسنانه: - كانت النصيحة بجمل! تساءل "سعيد" عن أيِّ جملٍ يتحدَّث! كم نصح أبي الناس وحذَّرهم من النَّمر! أبي الذي رفع عصاه بوجه ذلك المتعجرف الذي فرض خوَّةً على الباعة، ناشرًا صبيته في السوق يستفزُّون المارَّة. لم يحرِّك أحدهم ساكنًا وهو يقمع العجوز المشهود له بطيبته ونزاهته. ماذا يرتجي "أبو محمد" من جيلٍ تربى على الفساد بكلِّ أشكاله، حتى ظنَّه من مقتضيات الحياة ووسائل البقاء: الربح أضعاف أضعاف السلع، الصفقات المشبوهة والبضاعة الفاسدة التي غيَّر تاريخ صلاحيَّتها أخصَّائيون في القتل البطيء لبني ملَّتهم ؟؟؟ حتى "أبو محمد" نفسه يحرِّض من منطلقٍ سياسيٍّ، وليس حبًّا وكرامة للناس... صرخ "أبو محمد": - أغرب عن وجهي!! نهض سعيد بتثاقل.. هي نفسها العبارة التي سمعها وهو صغير ، قذفها "النَّمر" في وجه أبيه وسط السوق وعلى مسمع من الجميع، أبوه الذي توفي قهرًا.. وهو يوصيه أن يهجر التجارة لأنَّها أصبحت منبت سوء قميئ. ساقته قدماه إلى السوق القديم.. وقف أمام البناء الضخم الذي حلَّ مكان دكان أبيه. نظر إلى الواجهة التي كُتبَ عليها بأحرف برَّاقة: "النَّمر للاستيراد والتصدير". تأمَّل الواجهة.. تراءى له وجه أبيه ودموعه التي غطَّت لحيته وهو ينازع... كلُّنا غرباء يا أبي.. الغربة والوحدة تنهشان قلوبَنا الفارغة من الرحمة.. أخرجَ "سعيد" سكينه التي يحتفظُ بها احترازًا من اللصوص، وبدأ يحفرُ على الحائط الإسمنتيِّ السميك... في الصباح تجمهر الناس وهم يتهامسون حول فحوى العبارة: "هنا دُفنتْ البركة.. هذا العالم ذاهبٌ إلى الجحيم". الأصابع كلُّها صُوِّبت نحو سرحان المجنون؛ فما من أحدٍ يتلفَّظ بكلمات غريبة مجحفة لا معنى لها سواه. MJ.harb

التعليقات



إذا أعجبك محتوى الموقع نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

رئيس التحرير

الاستاذ : سامر المعاني

فريق التصميم

الاستاذ : أحمد جمال الجراح

المحررين

الاستاذ: أحمد جمال الجراح
الاستاذ : محمود خضر الشبول
االاستاذة : إيمان العمري
الاستاذة : امنة الذيباني
الاستاذة : لينا الخيري
الاستاذة : رولا العمري
الاستاذة : روند كفارنة
الاستاذة : ميسون الباز
الاستاذة : ايمان الحموري

المتواجدون الان بالموقع

احصاءات الموقع الشهرية

تصميم أحمد جمال الجراح -هاتف :00962788311431 © جميع الحقوق محفوظة

فضاءات الجياد

2020