-->
recent

آخر الأخبار

recent
random
جاري التحميل ...
random

قراءة نقدية في نص (كهل) للقاصة لين الاشعل بقلم الكاتب منذر فالح الغزالي

 *قراءة نقدية في نص(كهل) الذي شاركت به الكاتبة في مسابقة #روائع الأقلام لسنة 2020





#التناصّ وأفق التأويل في نص "كهل" للكاتبة التونسية #لين الأشعل

بقلم #منذر فالح الغزالي


 أولاً - النص

  كهلٌ 

مَحتِ الشَّظيَّةُ ذاكرتَه... 

خَوى جوفُه؛ قُدَّ قميصُ إنسانيّتِه. 

أسعَفَه الشّارعُ بالحكمةِ. 

سألْتُه عن عمرِه... 

 -أنا منِ التهمتِ الأَرَضَةُ صحيفةَ طفولتِه. 

    لين الأشعل/تونس

____________

ثانيا - القراءة

رغم أن القصة القصيرة جداً من أحدث الفنون السردية -عند الكتّاب العرب على الأقلّ- فإنها باتت أكثرها انتشاراً وكتابة، ساعد على هذا الانتشار الشبكة العنكبوتية، وحرية النشر وسهولته، إذ لا يكاد يخلو قطر عربي من رابطة للقصة القصيرة جداً على منصة الفيسبوك.

ورغم أنّ النقّاد المؤسسين لهذا الفنّ السردي قد وضعوا قواعد وشروط، فإنّ القصة القصيرة جداً لا تزال خاضعةً للتجريب، قادرةً على توليد شروطها وأساليبها التي تكتمل بها، لتكون نوعاً كتابياً خليقاً بأن يصبح جنساً مستقلاً له مكانه في بانثيون السرد.

ومع اختلاف المسميّات فإنّ الكلّ مجمعون أنّ التكثيف هو أهمّ شروط القصة القصيرة جداً. وبرأيي الشخصي فإنّ التكثيف هو عين القصة القصيرة جداً، وهو مبرر وجودها، فما القصة القصيرة جداً إلا موقفٌ من الحياة أو في الحياة، يكثّفه الكاتب ويركّزه ويطلقه سرداً على شكل قصة قصيرةٍ جداً. 

وكي يكون التكثيف ذا جدوى، ولا يزعزع كيان الحكاية، أو يفقدها تماسكها، يستعين الكاتب بعددٍ من التقنيات التي تساعده في اكتناز الدلالات، كالرمز والتناص والحذف... إلخ.

إن الكاتب في لحظة الإبداع يكون في حالة فكرٍ مطلق، وحالما يبدأ بتجسيد هذا الفكر، لغةً، برموزٍ وإشارات ينفجر الإبداع كالبرق يحمل طاقة هائلة، في وميض خاطف؛ لكنه باهر الضوء، يحدد، بذاته، اتجاهه و مساره وشكله وطبيعته، بحيث تنثال مساحة الضوء بعد انطلاق شرارة البرق على اتساع الفضاء المتاح أمامه... هذه هي القصة القصيرة جداً، وهذه هي قراءاتها: شرارةٌ مكتنزة بالطاقة تومض في لحظةٍ قصيرة جداً، يعقبها ضوءٌ ينداح في جميع الفضاءات وبجميع الأطياف. التكثيف إّنما هو اكتناز النص بطاقة دلالية شديدة التركيز، والقارئ جين يفرد هذا الشحنة الدلالية، إنما يرى الانثيال الشاسع الذي يغمره ضوء النص في أفق التأويل.


القراءة الصمّاء

 أو القراءة في المستوى الأول: 

وأقصد بالمستوى الأول، المستوى المنظور، مستوى القراءة المباشرة لمفردات القصة كما وردت على الورق، دون أي انزياح تأويلي. 

نص كهل بني على لسان راوٍ متكلم يحكي قصة طفلٍ أصيب بشظية في حرب من حروبنا التي لا تنتهي، ما أدى إلى فقدانه الذاكرة، وتشرّده في الشوارع التي أرضعته التجربة بسبب غياب الإنسانية من المجتمع، والقفلة تأتي جواباً على سؤال من الراوي تؤكّد شخصية القصة بأن طفولته ضاعت بسبب الحرب التي أفقدتنا ليس فقط حياتنا، لكن إنسانيتنا وتركتنا كائناتٍ مشوّهةً، تلك القفلة التي كشفت مغزى العنوان، فالطفولة في مجتمعات الحروب الدائمة لا مكان لها، الطفل يخلق كهلاً، بلا ذاكرة، مدرسته الشارع، وداخله أجوف. ش

 هذه القراءة أسميها قراءةً صمّاء، لأنها لا تسمع أيّ صوتٍ آخر سوى الصوت الذي تنطق به لغة النص حرفياً، فالنصّ، بالنسبة للقارئ، يكون أصمّ، كالصخرة الصلدة، لا يُرى منها إلا قشرتها. 

 وهذا النص، حتى في هذا المستوى من القراءة، هو نصّ جميل حقق الإمتاع بالتكثيف، والقفلة البلاغية المنفتحة، والعنوان الساخر الجاذب المشوّق، ويسجّل موقفا للكاتبة من خلال إنسانية الموضوع وانحيازها المبطّن إلى شخصيّة النص، التي تمثّل الإنسان المقهور، الضحية الدائمة لحروب الكبار.


القراءة في الدرجة صفر

 الكاتب، حين يضع نصاً، لا يقرر كيف سيكون شكل نصّه، لأن الإبداع ليس قراراً إرادياً، إنما هو حالة إشراق لا واعية. والكاتب، في لحظة الإشراق الإبداعي، يكون في تماهٍ تامٍ مع الفكرة، أشبه بالغيبوبة، أو السكر الصوفي، يصبح كلّه فكرة. 

وحين يتحول هذا اللاوعي إلى لحظة واعية من أجل نقل الفكرة المجردة إلى رموز وعلامات، هذا الانتقال الفجائي أشبه بلحظة تماس بين قطبين متعاكسين: قطب الفكر الخالص، المجرّد، وقطب اللغة التي تحتاج إلى إرادة واعية لإنتاجها، يعبر عنه الكاتب بطرق تختلف باختلاف طبيعة الكاتب وثقافته ومزاجه وطقوسه. هو أشبه بشرارة برق تمزّق حجب الوعي تخترق الفكرة فيه اللغة، تتوحّد معها توحّداً تاماً، فلا يكون أي انزياح بين الفكرة واللغة. هذه حالة أشبه بحالة حلمية تخلق اللغةُ رموزهاَ وإشاراتها المناسبة لطبيعة الفكرة وعمقها واتساعها ومقدار ضغطها على الوعي... هنا يخلق النص بشكل ومضة أو قصة قصيرة جداً، أو قصة قصيرة… حسب طبيعة الدفق الإبداعي وحاجاته. 

هذه الحالة هي التي أسماها بارت الكتابة في درجة الصفر، كتابة تكون فيها اللغة مساويةً تماما للوعي، اللغة والفكرة متوحّدان واللغة تحتوي الفكرة وتعبر عنها بشكلٍ تامّ. 

هذه الكتابة في الدرجة صفر تحتاج قارئاً من الدرجة صفر أيضاً، ذاك الذي سيقرأ "وعي الكاتب" متمثلاً في لغة النص المتحدة مع الروح، فلا حاجة للقارئ أن يبحث عن مقاصد الكاتب ورؤاه وطبائعه، إذ إن كل ذلك متضمناً في اللغة التي يقرؤها... إنه القارئ في درجة الصفر، يقرأ وعي الكاتب مباشرةً... هذه هي الفكرة الأساسية لموت المؤلف لدى البنيويين.

الكاتب حين ينقل وعيه الخالص إلى نصٍّ مكثف، يتوسّل بكل ما أمكنه من تقنيات أسلوبية وكتابية، مجرّباً أحياناً، مبتكراً أحياناً، حسب مقتضيات النص وحاجته. وكل هذا يتم بشكل لا إرادي بفعل التجربة الطويلة والاعتياد الذي تولده الخبرة والمهارة. 

وكل فكرة أو حالة تستدعي أساليبها، رموزها أو تناصّاتها، بغفلة عن وعي الكاتب؛ لكن مستفيدة في الوقت ذاته من مخزونه الثقافي والوجداني، أي يعكس جزءاً من روحه في نصّه بكلّ أبعاد الروح الثقافية والوجدانية والحسّية، تلك التي رسّختها التجربة الطويلة في لا وعيه، ذاكرته العميقة التي هيّجتها لحظة الإبداع المتوهجة والحارة للإمساك بالفكرة التي تشكل في الجانب الكتابي هدف النص وقصده... هذا هو جوهر القصة القصيرة جدا، وهذه هي فلسفتها ومبرر وجودها، ومن هنا تأتي عناصرها وشروطها.


الوظيفة التأويلية للعنوان  

يُعدّ العنوان بؤرة تأويلية تخضع لقراءات عدة، وتنتج معاني متشابكة.  

كهل: من جاوز الثلاثين ووخطه الشيب، وقيل من بلغ الأربعين. والكهل أصل يدلّ على قوّة في الشي‌ء.

الرجل كهل، بلغ أشده قوته وبدا يميل نحو الشيخوخة. الإنسان 

وكهل في تجلّيها التراثي والتاريخي والديني أيضاً تأخذ دلالات كثيرة:

جاء في القرآن عن السيد المسيح: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)، آل عمران، يأخذ العنوان دلالات غيبية قدسية. 

المجتمعات البشرية، عند ابن خلدون، تمرّ بدورة حياة كالإنسان، من الشباب حتى الشيخوخة، فالمجتمع، بعد قوّة الجيل الأول القائمة على العصبية والبناء، يصل إلى كهولته وعزّته، التي يميل بعدها نحو الشيخوخة والفناء.

وكالمجتمعات، تكون الحضارة الإنسانية برمتها، في مرحلةٍ من التاريخ، في قوة عاتية؛ لكنّها القوة التي يبدأ عندها غروب الشيخوخة.

كل هذه الدلالات وأكثر يمكن أن يضعها القارئ للعنوان أمامه؛ لكنّ قراءة النص وتمثّله بتأويلاته الممكنة، هي التي تحدّد أيٌّ من هذه التأويلات صالح وأي منها بعيد، لكن لنأخذ في اعتبارنا أن النص الأدبي، خاصة القصة القصيرة جداً، يُقرأ قراءاتٍ متعددة، تكاد تكون بعدد قُرّاء النص، وهذا يرتبط بمقدرة القارئ وثقافته، ولكلّ قراءةٍ جمالياتها الخاصة، وتأويلها الذي يرتبط بهذه الجماليات.


التناص وآفاق التأويل

التناص هو جوهرة التاج في هذا النص، وهو الرافعة التي بواسطته استطاعت الكاتبة أن تبلغ بنصها مصافّ النصوص الكبيرة المتربّعة في بانثيون السرد العربي. 

هذه الدراسة تهدف إلى الولوج إلى البنية الداخلية للنصّ، من مدخل التناص، وتفكيك بنياته أينما وجدت، وتحليل التأويلات الممكنة التي تشعّ بها التناصات، واكتشاف الدلالات الكامنة بين عناصره، وإعادة تركيب النص بدلالاته الجديدة؛ وبهذه الصيرورة التحليلية التركيبية سنجد أن التكثيف قد صنع من حكاية واسعة ممتدة فكرةً فلسفيةً عميقة، تحوّل من اندياح السرد إلى تركيز الفكرة.

بنت الكاتبة لين الأشعل نصها كهل بلغة إيحائية مكتنزة الدلالات مكثفة تكثيفاً شديداً، بمجموعةٍ من التناصات، لا يكاد يخلو سطرٌ أو عبارة من تناصٍّ يحمل دلالاتٍ أوسع من الدلالة المباشرة، ولا يخفى على القارئ أن جميع هذه التناصات نهلت من منهلٍ لغويٍّ ودلاليٍّ واحد. 

خوى جوفه:{ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4]. الجوف: باطن الإنسان، قلبه الروحاني، نفسه.

قدّ قميص إنسانيته: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (يوسف الآية 27( 

التهمت الأرَضَة صحيفة طفولته: صحيفة قريش التي اتفقوا فيها على مقاطعة بني هاشم وحصارهم في شعب أبي طالب.

قراءة النص في أحد مستويات التأويل تنطلق من طبيعة التناصات التي تتفق بمشترك واحد هو الخطاب الإسلامي، قرآناً وتراثاً. 

الشظية: كل ما يمكن أن يخترق الجسد، وبالقياس إليه، وبالمجاز ما يخر ق النفس، الروح، الفكر... حتى تصل إلى المجتمع، التراث، التقاليد، القيم.

وبحسب كل اختراق يكون المحو في الذاكرة: 

ذاكرة الإنسان تاريخه الشخصي،

ذاكرة المجتمعات تاريخها، تراثها الذي تعتز به، 

وفي كل هذا يصبح الباطن خاوياً.

خوى جوف الإنسان: بلا ماض، ولا أهل يذكرهم،

خوى جوف المجتمعات: صارت بلا تاريخ ولا تراث،

خوى جوف الحضارة: صارت بلا قيم إنسانية.

قدّ قميص إنسانيته، تثبيت لخواء الإنسان من ذاكرته، والمجتمع العربي من تاريخه، والحضارة البشرية من قيمها الإنسانية.

والمهارة الكتابية تتجلّى في هذا الطباق بين الجوف والقميص، بين الباطن والظاهر.

سألته عن عمره:

العمر ليست مجرّد سنين نعيشها ، عمر الأنسان هي مراحل حياته الحقيقية، طفولة، فشباب، فكهولة، فشيخوخة؛ وفي كل من هذه المراحل يملؤها بالحياة والعطاء. 

عمر المجتمعات ما بنت، وما تركت من عمران، حسب وصف ابن خلدون للمجتمعات.

عمر الحضارة البشرية، ما خلّفت من قيم تعزّز سعادة الإنسان ومكانته.

في كل هذا نجد بطل القصة يقول: "أنا من التهمت الأرضة صحيفة عمره" . 

الأرضة (جندٌ من الله مسخّرة) كما يخبرنا التراث الإسلامي، إنها التي التهمت صحيفة المشركين وانتصرت للمظلومين. 

وهي من أكلت عصا سليمان، تعلِم الجموع الخائفة بأنه مات.

الأرضة هي الدابة الصغيرة التي وضعت حداً بين زمن وزمن، بين تاريخ وتاريخ، بين حضارة وحضارة؛ تجاوز لعهد قديم، وعبور لعهدٍ جديد، يكون الجديد فيه هو الأفضل، زمن الرسول محمد ومجتمع المدينة بعد زمن الجاهليين، زمن الجموع التي تحرّرت من قوة الملك سليمان وسطوته.

هي زمن الحضارة الإنسانية القادمة بلا ريب، وعلى أهون الأسباب "مثل الأرضة الضعيفة"، بعد أن غابت عنها القيم الإنسانية.

القفلة تعيد النص من البداية، فيها أملٌ كبيرٌ يولد من الجراح، انتصارٌ للإنساني في كلّ تجليات الإنسان، فرداً، أم مجتمعاً، أم حضارةً كونية.

في التجلّي الجريء للتأويل يحق لقارئٍ ما أن يقرأ بالكهل صورة السيد المسيح حين صَلْبِه وعمره ثلاث وثلاثون سنةً.

 والشظية مسمار الصليب الذي، وهو يخترق جسده، يسحب منه، شيئاً فشيئاً، تاريخه البشري على الأرض، حتى إذا ما أنتهى الأقنوم البشريّ منه، تحوّل إلى الأقنوم الروحي المطلق القدسي.

 والأرَضة هي كلّ صغير من البشر يخون كما خان الإسخريوطي، ليسلّمه بيلاطس إلى جند الرومان. هذه الأرضة التي فصلت بين حياتين، وحالتين، وافتتحت تاريخاً جديداً للبشرية تمثل بصلب المسيح ورفعه، سواء كان الصلب حقيقياً، أم "شبّه لهم".

في الخاتمة أورد ما ذكره الكاتب أحمد جاسم الحسين:

"لا توجد قراءة جامعة مانعة لأي عمل إبداعي مهما كان مستوى العمل أو مستوى القراءة... القصة القصيرة جداً نصّ إبداعي يترك أثره ليس قيما يخصّه فقط، بل يتحوّل ليصير نصاًّ معرفياً دافعاً لمزيد من القراءة والبحث... فهو محرّض ثقافيّ يسهم في تشكيل المتلقي عبر تناصّاته ورموزه وقراءاته".


منذر فالح الغزالي

بون 3/2/2021

                           &&&&&&&&&&&&&

نص: كهل – ققج.

للأديبة لين الأشعل .

#قراءة: الشاعرة #زينب الحسيني . 

كهل. 

محت الشظيَّةُ ذاكرته.. 

خوى جوفه, قُدَّ قميص إنسانيَّته. 

أسعفه الشارع بالحكمة. 

سألتُه عن عمرهِ... 

-أنا منِ التهمتِ الأرَضَةُ صحيفة طفولتهِ.  

تمهيد: 

القصة القصيرة جدَّاً هي إحدى الأجناس الأدبية الحديثة الطارئة على المشهدالثقافي العربي التي يعود منشأها إلى 

الغرب, من خلال قصة كتبها أرنست همنغواي سنة (1925 ) من ست كلمات:" للبيع... حذاء طفل... لم يلبس قط" 

 وقيل إنَّ الكاتبة الفرنسية ناتالي ساروت,هي أول من كتب ققج. 

لكنَّ عدداً من الكتاب والنقاد العرب, يؤكدون أنَّ في تراثنا السردي العربي, جذورٌ للقصة القصيرة جداً,

ويقول د. مسلك ميمون في كتابه" ما قبل السر" 

" إن الققج. فنٌّ أصيل, ما دامت له جذورٌ في تراثنا وثقافتنا, وأدبِنا الشفهي والمكتوب, والأمر ليس من باب المزايدات

الابستيمولوجية, بل هي حقيقة دامغة" وقد اعجبني تعريفٌ ل "محمد منو" حيث يقول:  

" الققج. حدثٌ خاطف, لُبوسه لغةٌ شعرية مرهفة, وعنصره الدهشة والمصادفة والمفاجأة والمفارقة, وهي قصٌّ

مختزل وامضٌ يحوِّل عناصر القصة من شخصيات وأحداث وزمان ومكان, إلى مجرد أطياف ويستمد مشروعيته 

من أشكال القص القديم كالنادرة والطرفة والنكتة."

 وتستفيد الققج. من سمات عدد من الفنون والأجناس, لكنها لا تنسب إلى أيٍّ منها ولا تصير تابعة لها.  

 فنحن أمام فن أدبي, " راح يثبت حضوره وجدواه ويرسخ جذوره, بشكلٍ يسمح للكاتب 

وللمتلقي معاً بحرِّية الحركة, فيصبح المتلقي أو الناقد شريكاً في عملية الكتابة الإبداعية والتحليل والتأويل" 

 يقول الناقد والمفكر أحمد طنطاوي," القصة القصيرة جداً هي إيقاع هامس وموسيقى خفيَّة كما في قصيدة النثر,

 يستشعرهما القارىء في تنظيم مجريات الشعور عنده, فالمجال هنا هو التعامل مع إحداثيات الروح,

 التي يستحيل الإمساك بها.. هي تُرى فقط وتدعو في الوقت نفسه للتَّنامي الحدسي سعياً للاستنارة والتبصر" 

الموضوع:

 العتبة: "كهل" 

"كهل" هو الشخص الذي جاوز سن الشباب ولم يصل بعدُ إلى مرحلة الشيخوخة. وهو مفردة نكرة رئيسية, لا تعني شخصاً معينا بالذات.عنوان يسترعي انتباه المتلقي, ليتعرَّف على هذا ال"كهل" كعنوان.

وقد حظي العنوان باهتمامٍ كبير في كل الأجناس الأدبية وخاصة قي الققج. لأنه حسب ما يقول الناقد جميل الحمداوي:

" أول عتبة يمكن أن يطأها الباحث السيميائي قصد استنطاقها بصريَّاً ولسانياً وافقيَّاً, وهو تلك العلامة الدالَّة أو الشيفرة

 المتوِّجة للعمل الإبداعي" ورغم أهميته, العنوان "كهل" لم يكشف المتن.  

 نبدأ بالاستهلال: ( محت الشظية ذاكرته.. خوى جوفه, قُدَّ قميص إنسانيته. )

الذاكرة هنا ليست دالاً على الذاكرة وحسب, إنماهي مجموعة دوالٍ على الهوية والكينونة والوجود الفعلي. والقول :

 "محت الشظية ذاكرته" يوحي بان حرباً اقتلعته من جذوره وشردته, فتركته عارياً كشجرة تساقطت أوراقها تحت ضربات 

العواصف وهوج الرياح... ترى ما الذي يستبطنه قول "خوى جوفه , وقُدَّ قميص إنسانيته."؟ 

الخواء , يعني النضوب الكلي,الذي ليس أقله الجوع, والحرمان , الذي يتمظهر تشظِّياً وندوباً في النفس .  

 " قدَّ قميص إنسانيته" تعبيرٌ فيه تناص مع سورة النبي يوسف, وهنا جاء التعبير مجازيَّاً, فيه دلالة على انتهاكٍ لإنسانيته, 

وكيف لمن آل إلى هذه الحال من "خواءٍ" وفقدانٍ للهوية ومعنى الوجود , أن يحس بمعنى الإنسانية؟؟  

 وما القول " أسعفه الشارع بالحكمة" إلا للدلالة على أنَّ الشارع أصبح بالنسبة للبطل, الملاذ الوحيد الذي يمدُّه بالحكمة, 

أوعلى الأقل, المكان الذي يستمد منه الحذاقة والمعرفة الضرورية للبقاء والاستمرار حيَّاً..


وحين تسأله الكاتبة/ الساردة عن عمره, يجيب:" أنا من التهمت الأَرَضة صحيفة طفولته"  


أيضاً لدينا تناص مع سورة "سبأ" حيث ذُكرت دودة "الأرضَة" التي تحكي قصة سيدنا سليمان في القول:

" فلما قضينا عليه الموت, ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته" 

والأرَضَة تمتلك قدرة كبيرة في تحطيم الأثاث والمفروشات وهي "آكلةٌ للخشب" 

في القفلة دلالة مجازية على تلك "الآكلة / الأرَضة" وهي نفسها "الشَّظية" التي دمرت حياةَ ووجود الطفل/ الكهل,  

ولفظته وحيداً إلى الشارع, فامَّحت آثار طفولته و صار"كهلاً" قبل الأوان ..  

وهنا ينفتح باب التداعيات أمام المتلقي , لتحضر في ذهنه صور أطفال الشوارع المشردين من جراء الحروب والدمار 

والفقر, أولئك الذين يبيتون في العراء ليل نهار... فتحصد أرواحَهم الأوبئة الفتاكة, أو ينصرفون إلى تعاطي الموبقات.    

                   الحبكة السردية/ اللغوية : 

النص يمتلك كل مقومات الققج. بدءاً من العنوان الذي لم يكشف المتن, لكن فيه إيحاءات

شكلت مفارقة مع القفلة المباغتة المذهلة, تكمن في ثنائية: كهل/ طفولة, حيث يكتشف المتلقي أن البطل ما يزال طفلاً, قفز بغتة

إلى مرحلة الكهولة لكثرة ما ذاق من مرارة الحياة وشقاوتها. 

النص مكتوب بجمل مكثفة جد معبِّرة دون استرسال في التوصيف, استعملت الكاتبة فيها الحذف مما يتيح المجال واسعاً للتأويل من قبل المتلقي 

لملء الفراغات وبهذا يصبح شريكاً للكاتب في الكتابة الإبداعية, شريطة " ألا يعلن أبوَّته للكاتب, ويؤوِل النص

كما يحلو له" 

في النص تناص قرآني يثري النص,وقد أشرت إليه في معرض الشرح للإيحاءات التي يختزنها السرد.

أحسنتِ الكاتبة توظيف أفعالٍ تخدم النص بسرعة وديناميكية, وتوضح مقصديتها: 

( محت, خوى, قُدَّ, التهمت) وهي افعالٌ تدلُّ على التشظِّي والخواء والالتهام ( الذي يحمل معنى الخطف السريع)

في الختام: النص بديع واقعي متخيَّل,ذو إسقاطاتٍ واقعية جمة, يحمل سمة إنسانية اجتماعية, تهدف الإضاءة على معاناة أطفال الشوارع وغيرهم ممن شردتهم الحروب وأذلتهم الحياة, في عالمٍ يحكمه طغاةٌ همُّهم أن يعيشوا أباطرة

على حساب قهر الشعوب وانتهاك إنسانيتهم..

خالص التقدير والاحترام للصديقة الأديبة المبدعة الأستاذة لين الأشعل , الملتزمة بهموم مجتمعنا 

 

العربي, والشكر والتقدير موصول للحضور الكريم ولكل المتابعين الأعزاء.

التعليقات



إذا أعجبك محتوى الموقع نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

رئيس التحرير

الاستاذ : سامر المعاني

فريق التصميم

الاستاذ : أحمد جمال الجراح

المحررين

الاستاذ: أحمد جمال الجراح
الاستاذ : محمود خضر الشبول
االاستاذة : إيمان العمري
الاستاذة : امنة الذيباني
الاستاذة : لينا الخيري
الاستاذة : رولا العمري
الاستاذة : روند كفارنة
الاستاذة : ميسون الباز
الاستاذة : ايمان الحموري

المتواجدون الان بالموقع

احصاءات الموقع الشهرية

تصميم أحمد جمال الجراح -هاتف :00962788311431 © جميع الحقوق محفوظة

فضاءات الجياد

2020