-->
recent

آخر الأخبار

recent
random
جاري التحميل ...
random

لقاء


مصطفى معايطة 


ككل المنكوبين في بلاء الحب ، كنت انا وهي أيضا ، دائمي البحث عن مكان يجمعنا ، نتبادل فيه أطراف الغزل وبعض الأحاديث ، أضيع في عينيها ، وتغيب في خشونة صوتي ، وهي تمارس متعة الاستماع ، مكانا يساوي في قيمته المادية جيوبنا المثقوبة ، ومحافظنا التي لا تحتوي الا هوياتنا التعريفية ، بأننا أبناء هذا البلد الذي نختنق في ضيق ارضه علينا.

دلني أحد اصدقاء هذا الابتلاء والضيق علي ما تيسر من بعض المقاعد ، التي يمكن أن تجمع كتفها براحة كفي اذا ما انتظرنا قليلا مغادرة عصفوري حب مقعدهما لنشغله بعدهما ، الاشجار وصوت العصافير تحيط بك ، فوح الزهر  ، ونسيم هواء لطيف ، ينازع أطراف أصابعي على تماويج خصلات شعر رأسها ، ولست أدري ما بالي وبال أصابع يديها ، ولست ادري ما المتعة في امساك يدها والضغط على مفاصل السلاميات ومفاصل راحة كفها ، ومن نذالة ممزوجة بالزناخة كنت في بعض الاحيان أمازحها ، آه كم يضحكني عندما تتألم وتصرخ بصوت عال ، ثم ما تلبث ان تضع يدها على فمها لحبس صراخها ، تفعل ذلك بعد أن ترتاح جانبي وتثق بأني لن أفعل ذلك ، فهي تحب شعور اصابع يدي ما بين شيال حمالة الصدر وجلد كتفها ، فتتركني هناك الى أن تنسى كم الزناخة التي أتمتع فيها ، فأرفع الشيال عاليا واتركه ، فتصيح من ألمه وتشتمني ، وانا اضحك بهستيرية أطلب سماحها ، بقبلة شاهد اصابعي وأضعه على جبيني ، تهدأ قليلا ثم تبدأ بالضحك معي مع بعض كلمات الشتم الرقيقة .


لست أدري من اين حلت علينا لعنة الشرطي الذي وقف فوق رأسينا ، وبدأ يمارس طقوس  سلطة ما فوق القانون باتهامات الاخلال بالأداب العامة ،  ولست ادري عن أي أخلاق يتحدث في حينها ، بدا وكأن الامر ملل كان يعاني منه ، فوجدنا تسلية يتسلى بها ، وفي لحظة هدوئي في التعامل سلمته بطاقتينا التعريفييات ، بطاقتي ضمان أننا ابناء هذا البلد وملح أرضه ، وأننا في بلد من المفترض أن يحكم فيها القانون ، وليس لاعب دور الشرطي السيء الذي يتصدر المشهد اولا في مسرحياتهم التمثيلية المتكررة ، قبل أن يمارس الاخر دور الشرطي الطيب أثناء فورة الغضب التي تنتاب المواطن جراء استفزاز الأول له ، وممارسة سلطة التخويف والترهيب والاساءة ونبرة الصوت المقيتة المتعجرفة ، تدخل الآخر لامتصاص الموقف واعادة بطاقتينا لنا ، وتركنا الى ما كنا فيه بعد تعكير صفونا.


غادرنا الشرطيان  ، ثم بدأنا بجمع شتات مزاجنا المتعكر ، لنعود الى ما كنا فيه من انسجام وئام وتآلف ، وفي أثناء محاولة تغييب هذا العالم بكله عن كاهلينا للحظة تخصنا وحدنا ، مر بجانبنا الشيخ الذي بدأ يتحسبن الله ويستغفره ويقذفنا بأسوأ ألفاظه ، وكأننا جئنا بشيء فريا ، ولست ادري عن هذا الشيخ ما كان يفعله في هذا المكان الذي لا يرتاده الا العشاق ، مرَّ وترك خلفه غصة في قلبينا ، وشعوراً تمكّن منّا بأن الويل وسقر مستقرٌ لنا .

ليس مهما ، المهم بأننا معا الان ، بعدما وجدنا مكاننا الضال الذي نبحث فيه عن نفسينا ، عن قبلة تحدثنا عنها وفيها مطولا لا نطيق صبرا على تطبيق حثيياتها ، ولكن كيف يمكننا أن نسرق هذه القبلة من بعضينا  والكثير من الوجوه ترقبنا ، والكثير من أقدام العبور تمر من أمامنا ، كيف يمكن أن نبعد عيني تلك الفتاة وصديقتها عن مراقبتنا ، وفي كل مرة يصدف لي أن يحط ناظري عليهما لا أجد إلا نظرات حقد وغل ، والكثير من حركات الشفاه غير المفهومة ، الا بأن الامر لا يعجبهما ، والكثير من الأحاديث التي يرمقوننا بها ، وكيف يمكنني الخلاص من ابتسامات تلك الفتاة التي كانت بين كل حين وحين تترك عيناها صفحة الرواية التي تقرأ فيها لتتابع أحداث روايتنا ، وكيف الخلاص من ضحكات وتهامس ذينك الشابين الذين اعتلا ظهر المقعد ليجلسا عليه ويضعا قدميهما فوقه ، والكثير من سجائرهما تحته وقشور البزر.


بدأ الوطن يضيق بنا أكثر وأكثر ، جيوبنا المثقوبة التي لا تؤهلنا للقاء مستمر في الكوفي شوبات ، ولا مكان عام نستطيع فيه الجلوس الى نفسينا دون رقيب وعتيد يعتلون كتفينا.


اتعلمين ماذا  ، لقد قرأت مرة في إحدى اوراق الكتب أمرا ، لقد قرأت بأن الحرية تكمن خلف القضبان ، فهناك اتعس من القرد الله ما سخط  ، وماذا عساهم يفعلون بنا أكثر من السجن ، وإنه لأرحم من هذا السجن الكبير الذي نعيش به ها هنا ، يرقبنا الجميع ولا مكان لنا وحدنا ويخصنا ، هذا غير جيوبنا المثقوبة .

أتعلمين  ، إنها لفكرة جيدة ، يقال بأن في السجن معدل مصروفنا يتجاوز ما نحلم به من رواتب تعبنا ، لا نهكل هم جيب مثقوبة ولا هم يحزنون ، وفي السجن ما عسى مغتصب أن يُعَيِّر خلوتنا ، وما عسى سارق أن يقول لنا ، وليس هناك في الزنزانة من شرطي يمارس سلطة فوق القانون علينا.

اتعلمين ، أعتقد بأنها الدولة المدنية التي نبحث عنها ، كل من فيها واضح ليس بألف قناع ، خلف القانون بجميعنا ، وبرعاية الدولة تكاليفنا المعيشية ، والجميع بوجهه الحقيقي لا يستطيع انكار تهمته وسبب وجوده ، ولا يسوق أحدهم على الاخر شرفا يفتقده ، ولا يستطيع اخفاء نفسه ، انه الحقيقة المطلقة دون مواربة ولا مضايقات .


لقد كنت قبل هذه اللحظة من أشد معارضي قانون الجرائم الألكترونية ، ولكن يبدو فيما يبدو عليه من ضيق حالنا ، وفقداننا للحرية وحياتنا بأحكام هذا وذاك ومضايقاتهم سنستغل هذا القانون ، لمكان يجمعنا معا دون هذا المجتمع بكله ، ستبعثين لي برسالة الكترونية تسيئين فيها لي ، وارد عليك بأبشع منها ، تأخذين عنها صورة وتشتكين علي ، وأرد الشكوى بشكوى ، سنسيء لقاضي العدل ونستفزه، وهكذا سيحكم علينا معا   وندخل اخيرا قفص حريتنا ، زاويتنا الخاصة التي لن يضايقنا بها أحد ، فقد سمعت بأن دولتنا مدنية حتى النخاع ،  وأنها انخرطت في معاهدات مصاف الدول في المساواة الحقوقية والعقابية أيضا ، وأنها تخلصت في مؤسساتها من رجعية الجندرية وتمييز الجنس ، وأن سجوننا أصبحت مختلطة الجندر ، هكذا سيتحقق الحلم .


اتفقنا وجاء وقت التنفيذ ، اشتكت واشتكيت ، وحولنا المدعي العام أمام القاضي ، وهناك قام بتحولينا لمحكمة أمن الدولة لعدم الاختصاص ، بتهمة تقويض نظام الحكم ، فبعد البحث والتقصي تبين أن الشات الذي كان يدور بيننا فيه حديث استهزاء بإقرار الموازنة ، شتم هذا النائب وذاك لتقصيرهم ، وحكومات لا تحتكم من امرها شيء، فاقدة لقرارها السياسي والاقتصادي ، والكثير من أحاديث الغزل الحارة ، والكثير من القُبَّل الإلكترونية التي كنا نحلم في تطبيق حيثيياتها ولم يسعفنا مكان خلوة خاصة ، وهكذا تبين بأن القضاء مرهون لعالم السياسة ، وسقطت خرافة الدولة المدنية في فك قضاء الاحكام العرفية ، وهكذا ساقونا لقاضي أمن الدولة ، الذي فرقنا لحين النظر في القضية ، أحدنا لسجن ابو زعبل ، والاخر لسجن السلام  ، وهكذا سقط حلم اللقاء وقُبَّلُ الغرام .


في السجن لا يوجد انترنت ، ولا يوزعون علينا حواسيب او هواتف ذكية ، مما اضطرنا العودة للقلم والرسائل الورقية ، أبعث لها رسالة باشتقتك ، لتعود إلي بعد اسبوع بجملة وأنا أيضا ، ودام الامر شهورا هكذا ، الى أن انقطعت أخبارها ، ولم يعد يصلني من مكاتيبها شيء ، شهور وشهور ، وسنة تلت أُخراها ، وأخيرا جاء القرار بانتهاء مدة الجرم الموكل إلينا ، وخرجت لأتنفس هواء الحرية ، وكان أول ما فعلته أن رحت أبحث عنها ، ليخبروني بأنها سبقتي منذ مدة طويلة ، ما يتجاوز العام ، فَهِمْت على وجهي بحثا عنها ، ولكن دون أن يسعفني مكان بوجودها.

التعليقات



إذا أعجبك محتوى الموقع نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

رئيس التحرير

الاستاذ : سامر المعاني

فريق التصميم

الاستاذ : أحمد جمال الجراح

المحررين

الاستاذ: أحمد جمال الجراح
الاستاذ : محمود خضر الشبول
االاستاذة : إيمان العمري
الاستاذة : امنة الذيباني
الاستاذة : لينا الخيري
الاستاذة : رولا العمري
الاستاذة : روند كفارنة
الاستاذة : ميسون الباز
الاستاذة : ايمان الحموري

المتواجدون الان بالموقع

احصاءات الموقع الشهرية

تصميم أحمد جمال الجراح -هاتف :00962788311431 © جميع الحقوق محفوظة

فضاءات الجياد

2020